أكثر الكلمات انتشاراً

لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

من الفتى الحالم إلى طبيب عالمي.. حكاية النجاح الذي خطّه القدر

03:38 م السبت 01 مارس 2025

البروفيسور أسامة حمدي

حوار- أحمد فوزي:

يسرد"الكونسلتو"، في الحلقة الثانية من الحوار الخاص، مع البروفيسور العالمي أسامة حمدي، مدير برنامج السمنة والسكري وأستاذ أمراض الباطنة والسكري بكلية الطب جامعة هارفارد، الجوانب الإنسانية الملئى بالتفاصيل في حياة العالم المصري، متوقفًا عند أهم المحطات التي غيرت حياته.

على ضفاف النيل في مدينة المنصورة، التي أبت إلا أن تسجل اسمها في التاريخ بانتصارها على لويس التاسع، نشأ الطفل أسامة حمدي، المولود في 18 سبتمبر 1956. كان طفلًا يافعًا، مولعًا بالفن، يحلم أن يكون رسامًا مثل دافنشي، أو مثّالًا مثل مايكل أنجلو، أو على الأقل مهندسًا معماريًّا متميزًا، ولكن كما هي الحال مع الأقدار، خطت له الحياة مسارًا مغايرًا تمامًا.

بعد أن أنهى دراسته الثانوية بتفوق، وبمجموع يؤهله لدخول أي كلية يتمناها، قرر التنسيق -دون رغبة منه- أن يرسله إلى كلية الطب بالمنصورة، التي كتبها بعد جميع كليات الهندسة لسبب بسيط، وهو أنه لم يكتب بين اختياراته هندسة المنصورة، التي لم يكن فيها قسم للعمارة، وكان التوزيع الجغرافي حينذاك، الذي طُبق مرة واحدة ثم أُلغيَ بعد ذلك، يُلزمه بدخول الكلية التي في مدينته فقط، فكانت الصدمة له كبيرة، فقد حطمت أحلامه الكبيرة في الفن والإبداع. يومئذ بكى على ما رآه "ضياعًا لمستقبله"، ولكن، دون أن يدرك، كان القدر يفتح له أبواب المجد في طريق آخر لم يختره.

رحلة من الإصرار

فقد أسامة، والده الذي كان مديرًا للإدارة التعليمية، وهو في الثانية عشرة من عمره، لتتحمل والدته عبء تربيته وإخوته الخمسة بمعاش محدود يكاد يكفيهم، كان التفوق الدراسي سبيله الوحيد، إذ اعتمد على مكافآت التفوق لشراء كتبه وملابسه منذ أن كان بالمرحلة الثانوية، حيث كانت مكافأة التفوق في الشهادة الإعدادية 375 قرشًا تدفع شهريًّا طوال سنوات الدراسة الثانوية، ورغم كل التحديات، تخرج في كلية الطب عام 1980 بترتيب الثاني على دفعته، ليبدأ مسيرته في عالم يتطلب مجهودًا أكبر، وإرادة قوية، وإصرارًا على النجاح.

افتتح أول عيادة له في مدينة نبروه المتاخمة للمنصورة، وجعل الكشف مجانيًّا للفقراء كل يوم خميس، وكان التنقل إلى القرى المجاورة لعلاج المرضى رحلة محفوفة بالمشقة، غالبًا على طرق موحلة وضيقة. عمله طبيبًا باطنيًّا حمل معه كثيرًا من التحديات، ولكن أيضًا قدم له دروسًا لا تُنسى في الإنسانية.

يحكي البروفيسور أسامة: "تربينا في المدارس الحكومية والجامعات المصرية، ولم نعرف كلمة الدرس الخصوصي، أو الجامعة الخاصة أو الأجنبية التي يدفع الأهل مصاريفها. كان مرتبي من الجامعة لا يكفي إلا القليل في عصر الانفتاح والغلاء، فتحت عيادتي في مدينة نبروه، وهي مدينة تبعد عدة كيلومترات عن المنصورة، وكان الكشف عدة جنيهات ضئيلة، ويوم الخميس مجانًا للفقراء غير القادرين. كان تمرجي العيادة ينتظرني أمام باب العيادة بحذاء نظيف حتى لا أدخل العيادة أمام المرضى والطين قد وصل إلى نصف ساقي من المشى مرتديًا بوتًا طويلًا تحت المطر في برك من الوحل، وكنت أذهب للكشف على المرضى في القرى المجاورة بعربة نصف نقل تتفادى بأعجوبة السقوط في الترع المجاورة، وفي طريق غير ممهد وضيق جدًا لتنتهي بي الحال إلى منزل من الطوب اللبن مضاء بلمبة جاز، وعادة ما كان المريض لا يملك أجر الكشف فأتحمله عنه بصدر رحب، ثم أعود إلى المنصورة محملًا بـ"البراغيت" التي تغذت على دمي سنوات، ولأزيد دخلي كنت أسافر إلى بلقاس فقط لعمل رسم قلب لمريض قبل الجراحة في عيادة الدكتور عبد الرحيم كامل، رحمه الله، ثم أعود إلى المنصورة في نفس اليوم لأكشف في أحد المجمعات الإسلامية الخيرية بجنيه واحد للكشف، وبعد انتهاء عملي في الجامعة ظهرًا أذهب إلى مصنع للغزل والنسيج بسندوب لأكشف على العمال مقابل جنيهات معدودة. كان يومي لا يقل عن 16 ساعة عملًا، وكنت سعيدًا جدًا بعملي رغم مشقته، وكنت أذاكر للدكتوراة في الوقت نفسه".

العلم لا نهاية له

بدأ البروفيسور أسامة حمدي، رحلته مع مضخات الإنسولين، تلك التكنولوجيا الحديثة حينذاك، فتدرب عليها في ألمانيا بعد أن حصل على الدكتوراة من جامعة المنصورة في عام 1989، ثم انتقل إلى السعودية، حيث أسس أول برنامج لمضخات الإنسولين في الشرق الأوسط، وقبل كثير من دول العالم المتقدمة، ولم يكن عمله هناك كافيًا لطموحه؛ فهاجر إلى الولايات المتحدة في أوائل التسعينيات ليبدأ مرة ثانية من الصفر، وهناك أنشأ أول مركز لمضخات الإنسولين في ولاية ميسوري، والخامس في أمريكا حينئذ، ثم انتقل عام 1998 للعمل في مركز جوزلين للسكر بجامعة هارفارد، وهو أقدم وأكبر مركز لعلاج السكر في العالم.

إرث علمي خالد

في هارفارد توالت إنجازات العالِم المصري تباعًا، إذ أسهم في تأسيس وحدة الأبحاث الإكلينيكية في مجال السكري والسمنة والتغذية، وقام بالعشرات من الأبحاث المهمة التي أسهمت في تغيير طرق علاج السكر والسمنة، وصاغ نظامًا غذائيًا مبتكرًا لمرضى السكر تطبقه حاليًا 29 دولة في العالم، وأسهمت أبحاثه في معرفة تأثير خفض الوزن في أمراض القلب والسكري من النوع الثاني، وغيّر كثيرًا من المفاهيم العلاجية لهذه الأمراض؛ مما أهله للحصول على واحدًا من أعلى أوسمة الجمعية الأمريكية للسكري، وكذلك وسام الأكاديمية الأمريكية للتغذية وعلوم الغذاء، كما نشرت له جامعة هارفارد واحدًا من أهم الكتب في مجال علاج السمنة عند مرضى السكر، الذي حقق أعلى المبيعات، وتُرجم إلى كثير من اللغات في العالم، بالإضافة إلى نشر أكثر من 150 بحثًا علميًا وكتابًا في مجال السكري والتغذية العلاجية والسمنة؛ لذا اختير أفضل طبيب في مجال السكري والغدد الصماء في مدينة بوسطن الأمريكية عشر سنوات متوالية، وحتى الآن.

عمل البرفيسور أسامة حمدي لم يقتصر على البحث الإكلينيكي وتطوير النظم العلاجية فقط؛ بل درّب أكثر من 50 طبيبًا من مصر والعالم العربي في مجال السكري والسمنة ليكملوا مسيرته، وأسس برامج طبية كثيرة في العالم، من الصين إلى روسيا، ومن البحر الكاريبي إلى الدول العربية. وكان مبدؤه أن الشباب المصري يمكن أن ينطلق إلى العالمية في كل مجال؛ لذكائه الحاد، وقدرته على الابتكار إذا توافرت له ثلاثة عوامل: الأمل، والقدوة، والفرصة.

في حديثه لموقع "الكونسلتو"، تذكر البروفيسور أسامة حمدي، أن جامعة المنصورة اعتبرته لفترة طويلة في مهمة قومية بعد أن تمسكت به جامعة هارفارد وقاومت عودته إلى مصر، واعتبرته مكسبًا كبيرًا لها، كما أن مصر اعتبرته مكسبًا أن يكون أحد أبنائها من أساتذة هارفارد، وردًا للجميل لجامعته؛ حاول إنشاء مركز للسكري بجامعة المنصورة بالمشاركة مع مركز جوزلين بالولايات المتحدة، وبتمويل كامل من الحكومة الأمريكية، لكن أحداث سيتمبر 2001 أجهضت المشروع بعد أخذ خطوات عملية فيه. بعد ذلك فوجئ منذ نحو 20 عامًا تقريبًا بخطاب شكر مرسل إليه من جامعة المنصورة، تشكره فيه على تقديم استقالة لم يتقدم بها، أو يفكر فيها؛ مما أدهشه وأشعره بالحزن حينذاك، لكن كلية الطب والجامعة تداركتا الأمر منذ سنوات قليلة بتكريمه ومنحه الأستاذية الفخرية هو والدكتور كريم أبو المجد، أستاذ الجراحة بجامعة كليفلاند، وكان هذا التكريم تقديرًا لإسهاماته العلمية الكبيرة في مجال السكري والسمنة على مستوى العالم. ومما أسعده مؤخرًا اختياره أيضًا ليكون عضوًا بمجلس أمناء جامعة المنصورة الأهلية، التي وُلدت من رحم جامعة المنصورة الأم، وعضوًا بلجنة التخطيط للدراسات الطبية بالمجلس الأعلى للجامعات المصرية، لكن حبه وارتباطه ببلده لم ينقطعا لحظة، فأنشأ مركزًا خيريًا لعلاج الأطفال المصابين بالسكري بالمجان في مصر بمستشفى الناس الخيري، وقال إنه يتمنى أن يطبق فيه كل ما يطبق حاليًا بالغرب، مهما كانت تكلفته، وبالمجان لأطفال مصر المصابين بالسكري، فليس لهم ذنب فيما أصابهم، وهم ليسوا أقل من الأطفال في أوروبا وأمريكا، ويستحقون أفضل رعاية لمرضهم، من أجهزة وتكنولوجيا حديثة.

رسالة للأجيال

يروي البروفيسورأسامة، قصة شاب مصري حضر ليعمل معه، وفوجئ حين ذكر متذمرًا أن الحياة صعبة بالمقارنة بجيلي، فقال له: لم أولد وفي فهمي معلقة من ذهب، وحكي له عن البدايات، وعن الجهد المضني والتفاني، وكيف أن النجاح يتطلب دائمًا التضحية والعمل الشاق بلا توقف، "لا يوجد للعلم والطب نهاية"، قالها مؤمنًا أنَّ التعلم هو مفتاحه السحري، والعمل هو صدقته الجارية.

وعن رحلة النجاح التي لم تُثنها الظروف، يستطرد قائلًا: "عندما كنت عريسًا، استلفت من أخي ما اشتري به شبكة زوجتي، واستلفت من أحد أخوالي مقدم الإيجار لشقتي، وعدت من أسبوع العسل في الإسكندرية وليس في جيبى سوى جنيهًا واحدًا! هذه كانت حالنا بعد 15 عامًا من الدراسة في كلية الطب، ثم الماجستير والدكتوراة، وسافرت إلى ألمانيا لتعلم مضخات الإنسولين، وكانت صيحة جديدة في مجال علاج السكري، ثم سافرت منها إلى السعودية لرغبتي في شراء عيادة بالمنصورة، إذ كانت إمكاناتي المادية لا تسمح بدفع قسط التمليك، الذي كان يبلغ ألف جنيه شهريًا حينئذ، وهو مبلغ فوق طاقتي، وهناك قمت بعمل أول برنامج في المنطقة العربية لمضخات الإنسولين، وأسهمت في إنشاء أول جمعية للسكري في مدينة جدة، ما زالت تعمل حتى الآن، كما أسهمت في إنشاء أول مركز للسكر في أحد المستشفيات العسكرية".

أكثر من طبيب

بعيدًا عن الطب، بقيت جذور الفن والأدب راسخة في روحه، فأقام عدة معارض فنية في أثناء دراسته بكلية الطب، ومن خلال اللجنة الفنية لاتحاد الطلاب ساعد كل موهوب في الرسم أو التصوير أو المسرح، وألف على البعد ثلاثة كتب أدبية، تعكس حبه العميق لمصر وهويتها، وتراثها الثقافي والفني. إضافة إلى ذلك، فإن أثاث منزله بالكامل في الولايات المتحدة الأمريكية من دمياط، إذ إنه رغم آلاف الأميال الفاصلة بينه وبين مصر، فإن ذلك لم يمنعه أن يعيش مع أسرته في منزله ومع زملائه في الولايات المتحدة حياة المصريين الكاملة في وادي النيل، وعادة ما يقول: "جسدي في الغربة، وروحي في مصر ولم تغادرها".

اليوم، يُعد البروفيسور أسامة حمدي واحدًا من أبرز الطيور المهاجرة، حاملًا رسالة أن مصر، مهما بدت قاسية الظروف، تنجب دائمًا من يحمل رايتها عاليةً في سماء العالم.

فيديو قد يعجبك:

الأخبار المتعلقة

صحتك النفسية والجنسية